“الصراري من الألم إلى الأمل: يومان من الحوار نحو مصالحة شاملة وعدالة مجتمعية”

في مشهد إنساني يعيد إحياء الأمل وسط آثار الحرب، احتضنت قاعة رابطة امهات المختطفين في محافظة تعز على مدى يومين متتاليين، جلستين حواريتين ضمن مبادرة الصراري للحوار المجتمعي والمصالحة، المنفذة في إطار مشروع «دعم السلام في اليمن من خلال المساءلة والمصالحة وتبادل المعرفة»، بالشراكة بين رابطة أمهات المختطفين ومنظمة سام للحقوق والحريات ومعهد دي تي.

وشهدت الجلسات حضورًا واسعًا من الوجهاء والمشائخ والمثقفين والقيادات المحلية وممثلي منظمات المجتمع المدني واكاديمين من المنطقة، إلى جانب مشاركة فاعلة من الشباب والنساء، حيث ناقش المشاركون جذور النزاع في المنطقة وسبل ترسيخ العدالة والمصالحة المجتمعية، مؤكدين أن الصراري قادرة على تجاوز ماضيها الأليم والمضي بثبات نحو مستقبل يسوده التعايش والسلام.

اليوم الأول: تشخيص الواقع ورسم ملامح الطريق

افتتحت أعمال اليوم الأول بكلمة ترحيبية من ادارة المشروع، أكدوا فيها أن الحوار يمثل مدخلًا جوهريًا لصناعة التغيير الإيجابي، وأن الهدف من اللقاء هو تشخيص جذور الأزمة ووضع أسس عملية لتحقيق السلام المحلي.
وجاءت الجلسة تحت شعار «من الذاكرة المؤلمة إلى المستقبل المشترك»، مركزة على تحليل الأسباب الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أسهمت في تفكك النسيج الاجتماعي داخل المنطقة.

الأسباب الفكرية والمذهبية
تطرق المشاركون إلى التحولات الفكرية والمذهبية التي شهدتها الصراري خلال العقدين الأخيرين، معتبرين أنها من أبرز مسببات الانقسام المجتمعي، حيث غلب الانتماء المذهبي والسياسي على الانتماء الوطني، مما أفضى إلى حالة من الاستقطاب الداخلي.
وقال أحد المشاركين:

“الصراري كانت نموذجًا للتعايش لسنوات طويلة، لكن الخطابات المتطرفة الوافدة غيّرت وعي الناس وأحدثت شرخًا بين أبناء المنطقة الواحدة.”

الأسباب الاجتماعية والسياسية
ناقش الحضور ضعف مؤسسات الدولة وتراجع دور المشايخ والعُقال منذ عام 2015، مما خلق فراغًا اجتماعيًا وأمنيًا استغلته أطراف متعددة لتعزيز نفوذها.
وأشار أحد المتحدثين إلى أن “غياب الدولة وانهيار الأعراف القبلية أسهما في تفكك منظومة الضبط الاجتماعي، وجعلت المجتمع عرضة للتجاذبات والانقسامات.”

الأسباب الاقتصادية
تطرقت الجلسة إلى تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وانقطاع الطرق، وتدهور الخدمات التعليمية والصحية، ما أدى إلى تفاقم الإحباط واليأس ودفع بعض الفئات للانخراط في الصراع كوسيلة للبقاء.

شهادات ومعاناة
قدم المشاركون شهادات مؤثرة حول واقع المعاناة الإنسانية في الصراري نتيجة الحرب، بين فقدان الأرواح والمنازل وتعطل الخدمات.
وقالت أحد المتحدثات بمرارة:

“الصراري فقدت أبناءها وتهدمت بيوتها، ولم يبقَ لنا سوى الأمل بأن يعود الأمان كما كان.”

التوصيات والمخرجات
اختتمت الجلسة بعدد من التوصيات، من أبرزها:تشكيل لجنة مجتمعية للمصالحة تضم مختلف الأطراف ، تفعيل برامج الدعم النفسي والاجتماعي ومراكز الإرشاد المجتمعي ، وإعادة تأهيل المدارس والمراكز الصحية والطرق المتضررة، وتعويض المتضررين وترسيخ العدالة كمدخل أساسي للمصالحة.

وأكدت المشاركون أن السلام الحقيقي لا يُبنى بالقرارات فقط، بل بالثقة المتبادلة، وأن العدالة هي حجر الأساس لأي مصالحة مستدامة.

اليوم الثاني: مناقشة الحلول وصياغة ميثاق شرف مجتمعي

تواصلت فعاليات اليوم الثاني في أجواء يسودها التفاؤل والإصرار على تحويل توصيات اليوم الأول إلى واقع عملي.
وخُصصت الجلسة الثانية لمناقشة آليات التنفيذ والمبادرات المجتمعية المستدامة التي يمكن أن تسهم في تحقيق المصالحة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي.

إغلاق صفحات الماضي وبناء الثقة

شدد المشاركون في مستهل الجلسة على أن الصراري بحاجة إلى مصالحة داخلية شجاعة تتجاوز جراح الماضي وتفتح آفاقًا جديدة للتعايش.
وأكدوا أن المصالحة ليست خدمة تُمنح من الخارج، بل مسار اجتماعي ينبع من إرادة أبناء المنطقة أنفسهم، عبر مبادرات فردية وجماعية تُعيد الثقة وتُكرّس الأمان.

رؤية مجتمعية شاملة

تناولت الجلسة أهمية توحيد الجهود المحلية وإشراك الشباب والنساء في عمليات التنمية، مؤكدين أن البيانات الدقيقة والدراسات الميدانية تمثل أساسًا لأي تدخل تنموي فعّال.
كما دعا المشاركون إلى استثمار خبرات الأكاديميين والمثقفين من أبناء الصراري لقيادة المبادرات المجتمعية في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية.

لجنة للمصالحة وميثاق شرف

خلص المشاركون إلى مجموعة من المخرجات العملية، أبرزها: تشكيل لجنة مشتركة للمصالحة تضم ممثلين عن مختلف الأطراف والقرى المجاورة ، وصياغة ميثاق شرف مجتمعي يُعد عهدًا بعدم العودة للعنف ويؤسس لثقافة التسامح والتعايش ، بالاضافة الى تنسيق الجهود مع السلطة المحلية لضمان تنفيذ المخرجات ومتابعة الملفات العالقة.

وأشار ممثل رابطة أمهات المختطفين إلى أن تجارب مماثلة ناجحة في مناطق أخرى من تعز كانت ثمرة التعاون بين المجتمع المحلي والسلطات، مؤكدًا أن هذا التعاون هو مفتاح نجاح تجربة الصراري أيضًا.

ختام يومين من الحوار: الصراري تكتب فصلها الجديد

اختُتمت الجلسات الحوارية بالتأكيد على أن ما تحقق خلال اليومين يمثل بداية حقيقية لمسار طويل من الثقة والمصالحة والعدالة المجتمعية.
وأكد الحاضرون أن أبناء الصراري قادرون على تحويل معاناتهم إلى نموذج وطني في صناعة السلام المحلي.

وفي كلمة ختامية مؤثرة، قال أحد المشاركين:

“لن ننتظر من يصنع سلامنا، نحن من سيصنعه، لأننا نحن من اكتوى بنار الحرب وندرك قيمة الأمن.”

وشدد المنظمون على أن هذه الجلسات ليست خاتمة المبادرة، بل نقطة انطلاق نحو بناء مرحلة جديدة من العدالة والتنمية المستدامة في المنطقة.