رحلة أم إلى المحكمة

على لسان إحدى الأمهات ومن داخل المحكمة، رابطة أمهات المختطفين تنفرد بنشر وقائع جلسات المحاكمة الهزلية اللاقانونية لـ 36 مختطفا من أبنائها.

الجزء الثالث

خرجت مبكرةً من منزلي، لم أذق شيئاً من طعام؛ فقلبي منشغل بابني ومحاكمة ظالمة تنتظره واتهامات كاذبة تزدحم بها ملفاته..

استقلينا سيارة أجرة وكنا ثلاث أمهات، جمعتنا بوابات السجون ونحن نحمل الطعام والملابس لأبنائنا، وقاسينا معا مرارة المكوث لساعات تحت أشعة الشمس، وألم الطرد دون زيارة، وأشد منها أن نزرو ما تبقى من أجسادهم وهي تعاني الهزال والتعب الشديد.
كنا في السيارة وكعادتنا نتجاذب أطراف الحديث، وبدأنا في إعادة شريط محنتنا منذ لحظة الاختطاف، التي تجاوزت القانون، حيث انتزع مسلحو الحوثي وصالح أبناءنا من أحضاننا، وأخفوهم لشهور عديدة، وبعد وساطات كثيرة لم تخل من عذابات الذل ودفع المال والقلق على المصير، تمكنا من محادثتهم هاتفيا، وما كادت تمر الأيام حتى خضنا معاناة السجون التي استنزفت قلوبنا وأجسادنا معا، وهانحن الآن أمام محاكمة هزلية بكل مافيها من انعقاد باطل وتهم زائفة وأدلة كاذبة.

قالت رفيقتي: كنت أراه في البيت طفلاً صغيراً، ولطالما عاملته وعاملني كطفل، كم كانت دهشتي شديدة وأنا أرى حشود المسلحين الملثمين والمدججين حوله وحول زملائه! يعاملوننا بقسوة، يراقبوننا ويراقبون أبناءنا، ويكاد أحدهم أن ينفجر في وجوهنا لمجرد تحية أو كلمة شوق نتبادلها مع أبنائنا، فمتى كان حب الأمهات وأشواقهن جرماً محظوراً
وقالت الأخرى: بعد أن أخفوا ابني عدة أشهر سمحوا له بالاتصال أخيرا بنا، فلما حدثني طلب مني أن أسامحه لأنه سبب لي القلق والخوف فقلت له: لست السبب يا صغيري، أنا السبب لأني ربيتك وإخوتك على القرآن والأخلاق الكريمة وهذه أصبحت تهمة في هذا العالم الموحش!

اقتربنا من بوابة المحكمة، ويا للعجب! اليوم لا توجد حشود عسكرية تقطع الطريق، وتزمجر من بعيد؛ يبدو أنهم حققوا ما سعوا إليه في الجلسة الأولى من دعاية كاذبة حول أبنائنا، وقصة ملفقة حول محاكمتهم، أو أنهم اقتنعوا ألا أحد منا يسعى لإرعابهم أو النيل منهم، فلم نكن إلا مجموعة نساء ورجال أكل منا العمر وشرب! نمشي ببطء لعجز أو مرض، ورغم ذلك لم نعف من تفتيش دقيق كأنما فعلنا كأمهات وآباء ما يستحق الشك والريبة! وليت تفتيشنا يرفع عن أبنائنا جزءا من الإهانة والعذاب، وإن ما يعتصر قلوبنا هو ما وقع على أبنائنا من ظلم وقهر.

دخلنا إلى القاعة ورأت كل منا ابنها داخل ما أسموه قفص الإتهام فأسرعنا دون شعور نحدثهم وننعم برؤية قريبة لوجوههم. كم يبدو ابني وسيماً رغم نحافته الشديدة! حين وقعت عيناه علي انفرجت أساريره كأنما هو القمر ليلة البدر، ومع الضجيج لم يكن يسمعني إلا بصعوبة بالغة لكن صوت رفيقه الذي بجواره وصل مسامعي وهو يسأل زوجته عن صغاره واحداً واحداً، ثم يعيد السؤال مرة تلو أخرى وكأنما أراد لكلماتها أن تستقر في مخيلته حتى إذا عاد إلى زنزانته تصبّر بها ووثق عرى آماله بالإفراج القريب الذي يستحقه.
واقترب رفيقهم الثالث باحثاً بين وجوهنا وتنقلت وجوهنا معه بين السيدات القريبات منا فرأيت سيدة تلتقي عينيها بعينيه فتمتلئ بالدموع وتحاول التماسك في شجاعة فيغلبها شوقها وخوفها، ولم تستطع أن تصمد أكثر، وغطت وجهها لتذرف الدموع، فيما أشار هو إليها من خلف الشباك في صلابة ألا تبكي وأن تحافظ على قوتها وأنه بخير وأن جميعهم يثقون بالله، فأمسكتُ يدها بقوة وقلت لها أن تجلس وتهدأ فالأبرياء المظلومون منتصرون بمناصرة الله لهم.
وفجأة جاء أحد الحراس ليمنعنا الحديث مع أبنائنا ولو من خلف الشباك وهددنا ان استمرينا أن يخرجنا من الجلسة فارتجفت قلوبنا وأسرعنا بالجلوس فحتى هذه اللحظات رغم ما تحمل من ظلم لنا ولأبنائنا محاصرة بالمنع والحرمان.

#أم_المختطف
#abductees_mother
#حرية_ولدي_أولا