قالواعن الاختفاء القسري

جريمة الاختفاء القسري ومشروعية المساءلة في ظل القانون الدولي

تعتبر جريمة الاختفاء القسري من الجرائم الجسيمة والخطيرة التي أدانتها وجرمتها كل الاتفاقيات الدولية، وغالبا ما تلجأ إليها الدول المستبدة لتهديد خصومهم السياسيين وإخراس صوتهم إلى الأبد، وغالبا ما تسارع السلطات إلى الإنكار عندما تلجأ إلى هذا الأسلوب غير المشروع، بل وترفض الإفصاح عن مكان وجود الشخص المختفي الذي يتعرض لكل أنواع التعذيب والمعاملة اللاإنسانية الحاطة بالكرامة الإنسانية، وفي كثير من الأحيان ينتهي به المطاف إلى الاختفاء بصورة أبدية.

فجريمة الاختفاء القسري هي جريمة ترتكب في جنح الظلام من طرف الجلادين، ويتم تبديد وإتلاف كل وسائل الإثبات بحيث يصعب على الضحايا أو ذويهم إثبات حقوقهم. ويقصد بالاختفاء القسري «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو موافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون.

وقد عملت المنظمات غير الحكومية وعائلات المفقودين ومجهولي المصير منذ سنة 1980 على تأسيس فريق العمل الخاص بالاختفاء القسري الذي كان الملجأ الوحيد لعائلات الضحايا، وفي سنة 1989 سجلت لجنة حقوق الإنسان عبر الفريق 18 ألف حالة اختفاء قسري، وبعد عشر سنوات زاد العدد إلى 48.770 حالة.

وقد ساعدت هذه العوامل سنة 1992 على إخراج الإعلان الخاص بالاختفاء القسري الذي نص منذ البداية على 10 شروط مسطرية لإعمال مبدأ عدم الإفلات من العقاب في جريمة الاختفاء القسري، وهي:

1) إحضار الشخص -مرتكب الجريمة- أمام المحكمة من أقوى الوسائل القانونية للكشف عن مصير الشخص المفقود أو مكان وجوده؛

2) حسن سير إقامة العدل عنصر هام لضمان تحديد هوية المسؤولين عن حالات الاختفاء وعدم إفلاتهم من العقاب، وينبغي أن تكون الإدارة المعنية مزودة بموارد كافية تضمن حسن سيرها ومحمية من التعرض للترهيب؛

3) اتخاذ إجراءات لضمان الحماية من التعرض لسوء المعاملة أو الترهيب أو الانتقام لجميع الأشخاص المشتركين في التحقيق في الاختفاءات؛

4) تصنيف جميع أفعال الاختفاء القسري من فئة الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي وإخضاعها لعقوبة مناسبة لخطورتها؛

5) عدم جواز إخضاع إمكانية المساءلة عن الأفعال لأي تقادم؛

6) إجراء التحقيقات في حالة الاختفاء ونشر نتائجها من أهم الوسائل لتقرير المساءلة بالنسبة إلى الحكومة؛

7) لا يجوز إصدار أو إبقاء أية قوانين أو قرارات تبقي على الحصانة؛

8) الإحالة على المحاكم من قبل سلطة التحقيق المؤهلة لذلك قانونيا؛

9) إجراء المحاكات أمام قضاء عادي وليس أمام قضاء استثنائي؛

10) عدم اعتبار التعلل بالامتثال للأوامر (ماعدا في حالة الإكراه) ذريعة في تحديد المسؤولية الجنائية، ويمكن أن تؤخذ بالاعتبار عند التحقيق ظروف كل حالة.

فهذه المبادئ التي أقرتها لجنة حقوق الإنسان في الدورة ال50 والتي جرمت الاختفاء القسري وأوصت بكل التدابير لعدم إفلات المتورطين من العقاب، اعترضتها عدة عوائق سياسية وقانونية في ظل التعارضات الواقعية بين الاعتبارات السياسية، من جهة، والاعتبارات القانونية والحقوقية والإنسانية، من جهة أخرى.

وبالرغم من كل العراقيل والتحديات الدولية، استطاعت المنظمات غير الحكومية وعائلات الضحايا ومجهولي المصير إخراج الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي اعتمدت ونشرت وفتحت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 77/61 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006، والتي دخلت حيز التنفيذ في 23 ديسمبر 2010 مع مرور ثلاثين يوما على تصديق العراق على الاتفاقية (البلد الذي أكمل عدد 20 بلدا المطلوبة لذلك).

مما لا شك فيه أن اعتماد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري يعتبر انتصارا للحركة الحقوقية العالمية، وآلية قد تساهم في الحد (ولو نسبيا) من انتشارها، وكذا حماية الضحايا والحق في جبر الضرر.

وقد نصت الاتفاقية على عدة مبادئ إيجابية نوجزها في ما نصت عليه المادة الأولى: «لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي أو بأية حالة استثناء أخرى لتبرير الاختفاء القسري».
كما نصت المادة 6 على أن المسؤولية الجنائية تشمل كل من له علاقة، آمرا أو مأمورا، مشاركا أو عالما بالأمر.

أما المادة 14 فتؤكد على معرفة الحقيقة أولا، والحق في الجبر ثانيا ويشمل رد الحقوق وإعادة التأهيل ورد الاعتبار وضمانات عدم التكرار. كما نصت الاتفاقية على متابعة كل المتورطين في هذه الجريمة.

هذه المبادئ حققت بعض تطلعات ومطالب المنظمات الحقوقية العالمية لحماية الضحايا والمجتمع من جريمة الاختفاء القسري. غير أن العديد من النصوص في الاتفاقية، والتي فرضتها بعض الدول في ظل الحرب على الإرهاب، قد تساهم في تفريغ الاتفاقية من مضمونها الحقوقي والإنساني.
نصت المادة 31 من الاتفاقية على أنه «يجوز لكل دولة طرف، عند التصديق على هذه الاتفاقية أو بعده، أن تعلن اعترافها باختصاص اللجنة بتلقي وبحث البلاغات المقدمة من طرف الأفراد الذين يخضعون لولايتها أو المقدمة بالنيابة عن أفراد يخضعون لولايتها ويشتكون من وقوعهم ضحايا لانتهاك هذه الدولة الطرف لأحكام هذه الاتفاقية، ولا تقبل اللجنة أي بلاغ يهم دولة من الدول الأطراف لم تعلن هذا الاعتراف».

ونصت المادة 32 على أنه «يجوز لأي دولة طرف في هذه الاتفاقية أن تعلن، في أي وقت، اعترافها باختصاص اللجنة بتلقي وبحث بلاغات تزعم دولة طرف بموجبها أن دولة طرفا أخرى لا تفي بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقية، ولا تقبل اللجنة أي بلاغ يتعلق بدولة طرف لم تصدر هذا الإعلان». وهذا، في اعتقادنا، قد يضعف من حقوق الضحايا في الجبر والإنصاف.

يلاحظ من خلال المادة 31 و32 أنهما أشارتا إلى مصطلح «يجوز للدولة»، وهي عبارة تعبر عن رغبة سيادية قد تتحقق أو لا تتحقق، كما أنها غير ملزمة من الناحية التعاقدية حتى تكون لها آثار قانونية، مما يعني أن الدولة، في غياب التزام وتصريح واضحين عند المصادقة بصلاحية واختصاص اللجنة المعنية بالاختفاء القسري بتلقي شكاوى الأفراد ضحايا هذه الجريمة، ستتحكم الدول في نوع التقارير والقضايا المقدمة إلى الدول الأعضاء في الاتفاقية أثناء تقديم التقارير السنوية (وهي تقارير -حتما- لن تسبب إحراجا للدولة).

لا بد من التذكير بأن التكلفة السياسية لجريمة الاختفاء القسري والتعذيب وجميع الجرائم ضد الإنسانية أصبحت باهظة، وذلك بسبب التطور التكنولوجي وسرعة انتقال المعلومة، وكذا وجود آليات قضائية زجرية كالمحكمة الجنائية الدولية.

فالعالم لم يعد قلعة آمنة للطغاة والجلادين، لذلك فمشروعية المساءلة وتكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب في الثقافة الوطنية يعتبران الضامن الأساسي لحماية المواطنين وإعطاء شرعية ومصداقية للدولة.

#حرية_ولدي_أولا
#اخرجوا_عيالنا
#release_our_sons