من وحي الغياب

بعد ثلاثة أشهر وأنت بعيد عنا، لا نعلم عنك شيئا، ورد منك اتصال أعاد لي الأمل، وأعطاني شحنة من الحياة…

أين أنت؟ وكيف حالك؟ وماذا فعلوا بك؟  
لم أترك لك متنفسا للإجابة…
غير أني أتذكر عبقا من كلماتك تذكرني بالصبر وجزاء الصابرين.

سجدت لله سجدة شكر بأن حفظ لي روحي.
وبعد محاولات كثيرة تنافس ساعات صبري في عددها لأزورك وأرى وجهك بعيني وجهي حتى يسكن قلبي، حصلت على زيارة إلى مكان سجنك.

كنت خائفة جدا وقلقة عليك، فما سمعته في رحلة بحثي عنك مخيف ولا يتحمله إنسان!
من خلف الشباك كان اللقاء الذي ساده الصمت والذهول “شاحب الوجه، هزيل الجسد، لقد صار جلد على عظم، طويل شعر رأسه وذقنه”

يا إلهي ماذا كانوا يفعلون بك طيلة هذه المدة؟!
أظهرت قوة وأنا أتحدث إليك، لا تقلق فأنا امرأة شجاعة.

أرهقني الحزن وبسببه كنت أعاني من آلام الولادة كل يوم حتى أعانني الله ووضعت مولودي، ومع كل آلام المخاض كنت أدعو لزوجي وأبكي ويبكي معي كل من حولي..
لأول مرة أضع مولودا وأنت لست بجانبي، وضعته وقد أرهقته بحزني، فخرج وجسده أزرق اللون وتنفسه ضعيف جداً ينتزع الحياة من أنياب الألم بشجاعة، كان قلبي يخفق بشدة ويداي ترتعشان ودموعي تسيل وأنا أراه يحتضر!
بثباتك ثبت يديه الصغيرتين في هذا العالم الذي لم يلتفت للحظة إلينا، وبشجاعتي حصل على أكسجين الحياة ليعيش عدة
أيام في الحضانة تحت رعاية طبية، ويعود إلي يتلمس وجهي بيديه الصغيرتين جداً لأشعر بهما دفء العالم كله، وابدأ
معه بناء العلاقات وأولها علاقته بك.
بدأت أريه صورة والده في الجوال حتى اعتاد عليها، وتعلق بها كلما كبر؛ فها هو يبكي يريد “بابا” فأحضر له الجوال ليشاهد صورة والده فيضمها ويقبلها! سامحني يا بني هذا ما أستطيعه الآن!

بلغت العام والنصف من عمرك ولم تستطع أن تعانق والدك ولم تحظ بأحضانه الدافئة الحنونة، فأسوار السجن يا ولدي
عالية ويد السجان قاسية.
كل مكان وكل شارع وكل متنزه يذكرنا بك..
في يوم من الأيام أخذت فيه الأولاد إلى منتزه ليلعبوا ويمرحوا فقد أردت أن أنسيهم بعض آلام تغييبك وما يعانوه من
الحرمان، وفي الطريق الذي كان ذات طريق السجن.

قال بني اللطيف: “ماما ما نشتي الحديقة خذينا عند بابا فرؤيته أحسن نزهة” فدمعت عيناي وأمسكت على قلبي أن يفتته
القهر والحزن، وبعد أن وصلنا المنتزه والأولاد يلعبون في نشاط وحيوية وتلفت فلم أجد ولديّ الصغيرين حينها جن
جنوني، يا لهف قلبي!! بحثت عنهم لكن دون جدوى!
فهرعت إلى باب المنتزه فوجدتهم، قلت لهم: “فين كنتوا رايحين؟؟

قالوا بكل براءة الطفولة: “يا ماما كيف نلعب وبابا مسجون احنا رايحين عنده!”

ذهبنا في إحدى المرات لزيارة زوجي نلتقي به ونسلم عليه، بعدها أخذ حذيفة يهمس في أذن أبيه ويخبره بالخطة اللي
حاكها هو وأنس كي يخرجوا والدهم،
قالوا: “احنا نضرب صالح (الحارس) ونربطه وأنت يا بابا اهرب” فتأثر والدهم وشعر بالمرارة التي طوقت أطفاله!

 وفي إحدى المرات كانت اللهفة في عيون أطفالي تتسابق لرؤية والدهم وعندما تم استدعاء محمد ولأول مرة نراه فيها،
ساد الصمت شفاهنا جميعا، أطرق أنس قائلا: ماما.. (بابا ليش قده هكذا) مسكت بيده وقلت له أهم حاجه إن بابا بخير
الحمد لله، لا أدري ما كان يقصد بها وعن ماذا كان يتحدث؟!!!

– “بابا اشتقنا لك قوووووي متى عيخرجوك والدموع ملئ عيونها”

فتاتي الصغيرة كانت كل يوم أسمعها وهي تبكي تحت اللحاف كي لا أراها، كانت تطيل سجودها وتدعو لأبيها بأن
يرجعه الله لها وكانت تدعو على من حرمها من حضنه المليء بالحنان.

ابنتي رزان التي لم تتجاوز الثامنة تعي معنى السجن، وماهي الحرية، كانت دائما صامتة، شاردة الذهن.
ااااه كم هي كثيرة أسئلة أولادي
“ماما أين أخذوا أبي، ومتى بيرجع وأيش بيعملوا به؟ وهل عيرجع ويجيب لنا الهدايا التي وعدنا بها؟”

 وكل يوم أعاني من آلام المعانة.
كان الله في عونكم يا أولادي، فمصيرنا وأحلامنا التي كنا نحكيها مع والدكم في وهلة اختفت، تبخرت
وستستبدلونها بآهات ودموع تنفثوها من رحاب صدوركم من أحشائكم.

#حرية_ولدي_اولا.